Ticker

6/recent/ticker-posts

Header Ads Widget

خُلاَصَةُ عَنَاصِرِ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ

 

خُلاَصَةُ عَنَاصِرِ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ

==

===

إعداد الطالب :

فخر الرازي كرديفان

 

عناصر الموضوع :

·       تمهيد

·         الأول : وهو اعتبار معناها التركيبي

·         الاعتبار الثاني : تعريف مقاصد الشريعة باعتبار معناها اللقبي ، وهو علم مقاصد الشريعة.

·         نشأة علم مقاصد الشريعة

·         مقاصد الشريعة بعد تميزها وتدوينها

·         أهمية المقاصد ومدى الحاجة إليها

·         طرق معرفة مقاصد الشريعة

·         الأدلة التي تثبت مقاصد الشريعة

·         مراتب المقاصد

·         ضابط المقاصد أو الصفة الضابطة لها

·         المقصد العام من التشريع هو حفظ النظام إلى جلب المصالح ودرء المفاسد

·         معنى المصالح والمفاسد

·         الضابط الذي به تعرف المصلحة من المفسدة .

·         ضوابط المصلحة

·         أقسام المصالح

·         أولا : أقسام المصالح - أو المقاصد - باعتبار آثارها في قوام الأمر .

·         أقسام المصالح الضرورية :

·         ترتيب المقاصد الضرورية السابقة

 *****

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

===***===

تمهيـد

الشريعة الإسلامية ، هي أعظم الشرائع على الإطلاق وأقومها ، وكان لا بد لها من مقاصد ترمي إلى تحقيقها. وهي نوعان :

1- مقاصد الخالق من الخلق . 2- مقاصد الشارع من التشريع ، ونعني بها : الغايات والأسرار التي يرمي إليها التشريع ، ويراعيها الشارع الحكيم عند كل حكم من الأحكام لتحقيق مقصد عام هو حفظ النظام ، وإسعاد الأفراد والجماعات .

==*****===

تعريف مقاصد الشريعة الإسلامية

مقاصد الشريعة عند تعريفها ينظر إليها باعتبارين :

1-     باعتبار معناها التركيبي الإضافي.

2- باعتبار معناها اللقبي .

الأول : وهو اعتبار معناها التركيبي .

فهو مركب إضافي من كلمتي مقاصد ، والشريعة المنسوبة إلى الإسلام .

أ – مقاصد :

في اللغة : الاعتزام والتوجه والنهوض نحو الشيء وإرادته سواء أكان على اعتدال أم على جور . وهو الأصل في حقيقة الاستعمال عند أهل اللغة ، وإن كان قد يُخص في بعض المواضع بقصد الاستقامة والاعتدال دون الميل.

المقاصد في الاصطلاح : بأنها الاعتزام والتوجه والنهوض نحو الشيء وإرادته على استقامة واعتدال.

ابن عاشور « الأعمال والتصرفات المقصودة لذاتها التي تسعى النفوس إلى تحصيلها بمساع شتى ، أو تحمل على السعي إليها امتثالاً » .

ب – الشريعة :

والشريعة في اللغة تطلق على الدين ، والملة ... وإن كان في أصل استعمالهم تطلق على الطريق الظاهر الذي يوصل إلى الماء.

كما تطلق على مورد الشاربة الذي يشرعه الناس فيشربون منه ويسقون . غير أن العرب لا تسميه شريعة إلا ...

وهي مشتقة من التشريع : الذي هو إيراد الإبل إلى الماء شريعة لا يحتاج معها إلى نزع من بئر ولا سقي من حوض .

تعريف المختار :

« هي عبارة عما جاء به الرسل من عند الله تعالى بقصد هداية البشر إلى الحق في الاعتقاد ، وإلى الخير في السلوك والمعاملة » .

======

العلاقة بين معنى الشريعة اللغوي والاصطلاحي.

إما حصول الحياة في الكل ...

وإما حصول الطهارة من الأوساخ في كل ...

فشريعة الماء فيها طهارة وحياة الأبدان . وشريعة الله فيها طهارة الوجدان وحياة الأرواح وسعادة الإنسان في الدارين .

جـ - الإسلام .

أما الإسلام فهو في اللغة : الانقياد ، والتفويض ، والدفع .

وفي الاصطلاح : هو الاستسلام لله تعالى بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك .

والمراد هنا : الدين المنزل على نبينا محمد -ﷺ- وهو آخر الأديان وخاتمها.

فتعريف الشريعة الإسلامية هي : « الأحكام التي سنها الله – تعالى – لعباده عن طريق نبينا محمد -ﷺ- وجعلها خاتمة الشرائع » . وهذا التعريف خاص بشريعتنا.

وتعريف مقاصد الشريعة الإسلامية بمعناها التركيبي بأنها :

« إرادة وإتيان الأحكام التي سنها الله تعالى لعباده عن طريق نبينا محمد ﷺ وجعلها خاتمة الشرائع » .

======

الاعتبار الثاني : تعريف مقاصد الشريعة باعتبار معناها اللقبي ، وهو علم مقاصد الشريعة.

لم تحظ مقاصد الشريعة باعتبار معناها اللقبي ... حتى إن الشاطبي ...

تعريف اليوبي والشيخ ، هي : « المعاني والحكم والأهداف والغايات التي راعاها الشارع في التشريع عموما وخصوصا من أجل تحقيق مصالح العباد » .

==****==

نشأة علم مقاصد الشريعة

والمتتبع لتاريخ مقاصد الشريعة قبل تدوينها وتمييزها يجد : أن بعض المقاصد الشرعية كانت موجودة في الكتاب والسنة ...

أ – الآيات : التي تبين بعض مقاصد الشريعة العامة والخاصة  :

فمن المقاصد العامة : ﴿ يريد الله بكم ... ﴾ و ﴿ وما جعل عليكم .. ﴾ وقوله تعالى : ﴿ يريد الله أن يخفف عنكم ﴾ .

ومن المقاصد الخاصة بأحكام جزئية : ﴿ إن الصلاة تنهى .. ﴾ و ﴿ خذ من أموالهم صدقة ... ﴾

ب – أما السنة : فكذلك منها ما يبين بعض مقاصد الشريعة العامة ، ومنها الخاصة :

أحاديث مقاصد الشريعة العامة : « إن الدين يسر ... » ، و« فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسِّرين » ،  و« يسروا ..

أحاديث مقاصد الشريعة الخاصة : « لولا أن أشق ...  » ، و « إنما جعل الاستئذان ... ». و« يا معشر الشباب .... »

جـ - أما الصحابة : كقول عمر حين أشار على أبي بكر بجمع صحف القرآن ...

د – أقيسة علماء الأصول : حيث إن العلة أحد أركان القياس واشترطوا فيها : أن تكون مشتملة على المناسبة ، بأن يحصل من ترتب

هـ - كلام الفقهاء في المسائل الفقهية ...

كل هذا تؤكد أن مقاصد الشريعة كانت موجودة كمعاني وعلل وحكم ومصالح متفرقة ... لكنها لم تُمَيَّز ولم تفرد بالتدوين إلا على يد إسحاق الشاطبي المتوفى سنة 790هـ.

==****==

مقاصد الشريعة بعد تميزها وتدوينها

من تكلم عن المقاصد ودوَّن فيها قبل الشاطبي : كإمام الحرمين الجويني ، والغزالي ، والعز بن عبد السلام وغيرهم ، لكن هؤلاء لم يفردوها بالتدوين والتأليف ، وإنما ذكروها ضمن مؤلفاتهم .

1- إمام الحرمين الجويني :

أنه نبه على تقسيم المقاصد إلى ضرورية وحاجية وتحسينية ، وحيث قسم أصول الشريعة إلى خمسة أقسام :

هذا بالإضافة إلى مواضع أخرى أشار فيها إلى المقاصد ...

2- الغزالي :              

تميزت بالتفصيل والتوضيح ، فذكر : المصلحة وقسمها بالإضافة إلى شهادة الشرع لها إلى ثلاثة أقسام :

ثم قسمها باعتبار قوتها في ذاتها إلى ما هي في ...

ثم ألحق بكل قسم منها ما يجري مجرى التكملة التتمة لها ...

3- العز بن عبد السلام :

انتقل بالمقاصد في التأليف والتدوين نقلة كبيرة ، فألف « قواعد الأحكام ... » ، بين فيه : حقيقة المصالح ... ، وتقسيم ... ، ورتب ... ورجح بينهما ، ورجح بين المصالح أنفسها ، ونحو ذلك من ...

==****==

مقاصد الشريعة عند الشاطبي

يعتبر الشاطبي المتوفى سنة 790هـ أول من جمع المقاصد ورتبها ونسقها وفصَّل القول فيها ودونها في كتاب مستقل بذاته هو الجزء الثاني من كتابه الموافقات .

فقسم فيه مقاصد الشريعة قسمين : الأول : مقاصد الشارع ، والثاني : مقاصد المكلف .

ثم تكلم عن مقاصد الشارع من وضع الشريعة فجعله في أربعة أنواع :

1-   مقاصد وضع الشريعة ابتداءً  ، وضمنه ثلاث عشرة مسألة .....

ثم تكلم عن القسم الثاني : وهو مقاصد المكلف ، وذكر فيه ثنتي عشرة مسألة.

هذا بالإضافة إلى ما ذكره في المقاصد في باقي أجزاء كتاب الموافقات ، فلا تكاد تجد جزءً منه إلا وتكلم فيه عن ...

المقاصد بعد الشاطبي

لم نجد – فيما نعلم – من كتب المقاصد كتابة مستقلة بعد الشاطبي إلى أن جاء الطاهر بن عاشور الزيتوني ...

ثم توالى الناس في التأليف . فألف علاَّل الفاسي كتابه : مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها ، والدكتور يوسف العالم ...

===***===

أهمية المقاصد ومدى الحاجة إليها

لم يكن العامي المقلد في حاجة إلى معرفة مقاصد الشريعة ؛ لأنه ليس من أهلها.

أما العالم المجتهد الذي يتصرف في ... فهذا لا بد له من معرفة مقاصد الشريعة ، وحاجته إليها شديدة ؛ إذ هي بالنسبة له كالبوصلة بالنسبة للمسافر .

فالمقاصد مختصة بأهل العلم والاجتهاد القادرين على الاستنباط ، لذلك نوه الشاطبي بأهمية المقاصد ... ، فقال :

" إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين : الأول : فهم مقاصد الشريعة على كمالها. والثاني : التمكن من الاستنباط بناءً على فهمه فيها ".

أما الأول : فقد بين أنه استقر بالاستقراء التام أن المصالح ثلاث مراتب : ضرورية وحاجية وتحسينية . فإذا بلغ ...

وأما الثاني : فهو كالخادم للأول ، أي أن فهم مقاصد الشريعة يتوقف على فهم الجزئيات التي هو الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة الإجماع والقياس وما يتعلق بها من مسائل .

ثم يبين ابن عاشور – أيضاً – حاجة الفقيه إلى المقاصد دون العامي ، فقال :

" وليس كل مكلف بحاجة إلى معرفة مقاصد الشريعة ؛ لأن معرفة مقاصد الشريعة نوع دقيق من أنواع العلم ... وحق العالم فهم المقاصد ، والعلماء في ذلك متفاوتون على قدر القرائح والفهوم ... ".

ولقد قرر ابن عاشور حاجة الفقيه إلى ذلك بكلام نفيس خلاصته :

" إن تصرف المجتهدين في الشريعة له خمسة أنواع :

1- فهم مدلولات الألفاظ ....

التلخيص :

تخلص من هذا كله على أن المجتهد في حاجة ماسة إلى معرفة مقاصد الشريعة ، وذلك بما يلي :

1.   فهم أقوالها وما تفيده تلك الأقوال من مدلولات بحسب الاستعمال اللغوي ، والنقل الشرعي .

2.   ومعرفة التعارض بين الأدلة ؛ ليعمل بالدليل السالم عن المعارض ، ويجمع ويوفق بين الأدلة المتعارضة، أو يرجح بينها حتى يعمل بالراجح .

3.   ومعرفة علل الأحكام الثابتة بطريق من طرق العلة حتى يلحق ما لم ينص عليه بما نص أو أجمع عليه ، وهو ما يعرف بالقياس .

4.   معرفة المصالح المرسلة حتى يحاول إعطاء حكم لفعل أو حادثة لم يعرف حكمها بدليل من أدلة الشرع ، ولم يكن لها نظير تقاس عليه .

5.   فإذا لم يعرف هذا ولا ذلك ، أخذ بالحكم على أنه تعبدي لا تدرك علته .

6.   غير أن حاجة الفقيه المجتهد إلى معرفة العلل والتعارض بين الأدلة والمصالح المرسلة أشد من حاجته إلى غيرها.

====****====


طرق معرفة مقاصد الشريعة

الطرق التي بها تُعْرَف مقاصد الشارع من تشريع الأحكام كثيرة نقتصر منها على أهمها وهي كما يلي :

----

الطريق الأول : النص الصريح المعلل .

أما الآيات فمنها : ﴿ وأعدوا لهم ... ﴾ و ﴿ إنما الخمر والميسر ... ﴾ و ﴿ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ... كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ﴾ .

أما السنة : « يا أيها الناس إنكم منفرون .. فإن فيهم المريض .. » . و « يا معشر الشباب ... » .و« لا تنكح المرأة على عمتها ... » . للمغيرة « انظر إليها  ... ».

----

الطريق الثاني : استقراء الشريعة في تصرفاتها.

قال العز : " ومن تتبع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد حصل له من مجموع ذلك اعتقاد .... ".

واستقراء الشريعة نوعان :

أ- استقراء أحكام الشريعة التي عرفت عللها .

أن النبي -ﷺ- نهى عن بيع التمر بالرطب .. : « أينقص الرطب إذا جف ؟ » قال : نعم ، « فلا إذن » . فالعلة هي الجهل بمقدار أحد العوضين ..

ب- استقراء أدلة الأحكام التي اشتركت في علة واحدة وباعث واحد .

نهى الشارع عن بيع الطعام قبل قبضه لعلة هي طلب رواج الطعام في الأسواق ، كما نهى عن تلقي الركبان لنفس العلة .

ومن هذا القبيل الأدلة الواردة في شأن الرقيق وعتق الرقاب في بعض الكفارات ، ومصارف الزكاة ... .

 ----

الطريق الثالث : الاقتداء والاهتداء بالصحابة .

وذلك في فهم الأحكام من الكتاب والسنة وتطبيقها على الوقائع ... . وامتازوا به من قوة الحفظ والوعي ، وصفاء السريرة والسيرة ... . وهم أجدر الناس بفهم عبارات الشارع ، ومعرفة مقاصده ، ، وقد فهموا من مصادر التشريع ... كما فهموا أن الشارع جوز لهم بناء الأحكام على المعاني التي فهموها من شرعه : كتقريره ﷺ لمعاذ : " أجتهد رأيي ولا آلو " ..

وعليه :

أ-   فإذا شاهد عموم الصحابة عملاً للنبي -ﷺ- حصل لهم علم بتشريع ومقصدٍ للشارع في ذلك يستوي فيه جميع المشاهدين ..

منها : مشاهدتهم خطب النبي ﷺ في العيدين بعد الصلاة ، وفي الجمعة قبل الصلاة .

منها : مشروعية الصدقة الجارية المعبر عن بعضها بالحبس ، وهذا العمل هو الذي عناه الإمام ملك حين بلغه أن شريحاً ...

ب-       كذلك إذا شاهد آحاد الصحابة أعمال رسول الله -ﷺ- وتكررت مشاهدته لها ، فإنه يستطيع أن يستخلص من مجموعها مقصداً شرعياً.

عند البخاري عن الأزرق بن قيس قال : " كنا على شاطئ نهر بالأهواز قد نضب عنه الماء ، فجاء أبو برزة الأسلمي على فرس ...

====****===

الأدلة التي تثبت مقاصد الشريعة

الطرق التي بها تعرف مقاصد الشريعة في نفس الوقت تعتبر أدلة مثبتة لمقاصد الشريعة ؛ لأن النصوص الصريحة المعللة ، واستقراء الأحكام وأدلتها ، والاهتداء بما شاهده عموم الصحابة وآحادهم لأفعال النبي -ﷺ- قد دل على وجود مقاصد للشارع من شرع الحكم . والوجود دليل على الثبوت وزيادة .

الأدلة التي تثبت أن للشريعة مقاصد كثيرة ومتنوعة منها : النص ، والإجماع ، والمعقول :

النصوص من الكتاب :

1- بأن الله تعالى أرحم الراحمين . 2- بأنه ﷺ بعث رحمة للعالمين .

3- النصوص التي صرح فيها تعالى بالتعليل : ﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطا ... ﴾ . و﴿ ومن حيث خرجت ... لئلا يكون للناس عليكم حجة ﴾ . و﴿ إنا أنزلنا إليك ...

وهناك أيضا الأحاديث التي صرح فيها النبي -ﷺ- بالتعليل : « إنما جعل الاستئذان من أجل البصر » و « إنما نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة » .

4- إرادته تعالى التيسير ورفع الحرج ، كقوله تعالى : ﴿ وما جعل عليكم ... ﴾ ، و : ﴿ ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ﴾ ، و : ﴿ يريد الله بكم اليسر ... ﴾.

5- بأن حكمه  أحسن الأحكام كقولـه تعـالى : ﴿ ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ﴾.

6- جاءت عامة تشمل تحقيق جميع المصالح ، كقوله تعالى : ﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ... ﴾ .

قال ابن مسعود : " هذه أجمع آية في القرآن ، ولو لم يكن فيه غير هذه الآية لكفت في كونها بياناً لكل شيء وهدى ".

والنصوص من السنة ، منها :

« الإيمان بضع وسبعون شعبة ، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق »يؤيد ذلك قوله -ﷺ- : « كل سلامى من الناس عليه صدقة ...

ثانياً : إجماع الصحابة : لقد صدرت وقائع من آحاد الصحابة قد روعي فيها مقاصد الشريعة ، إما تصريحاً أو تلميحاً ، ولم ينكر عليهم ذلك من باقيهم ...

ثالثا : المعقول : أما المعقول فمن وجهين :

الأول : أنه تعالى خلق الإنسان وكرمه وجعله في أحسن تقويم ، ﴿ ولقد كرمنا بني آدم ﴾ ، و ﴿ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ﴾ .

الثاني : أن الله تعالى راعى مصالح العباد في مبدئهم ومعاشهم ، حيث أوجدهم من العدم ، وسخر لهم النعم ، وامتن عليهم ؛ لقوله تعالى : ﴿ وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض ..

====*****====

مراتب المقاصد

المرتبة الأولى : المقاصد القطعية .

وهي ما كان العلم الحاصل للباحث عن المقاصد الشرعية قطعياً ، أو هي ما يؤخذ من متكرر أدلة القرآن الكريم والسنة تكراراً ينفي احتمال قصد المجاز والمبالغة .

المرتبة الثانية : المقاصد القريبة من القطعي .

هي ما يرجع العلم الحاصل للباحث عن المقاصد إلى أصل قطعي ، وليس بقطعي ، وإنما هو ظني ، مثاله :

المرتبة الثالثة : المقاصد الظنية .

« هي ما كان العلم الحاصل للباحث عن المقاصد الشرعية ظنياً » أو « هي ما يؤخذ من استقراء غير كبير لتصرفات الشريعة » .

==****==

ضابط المقاصد أو الصفة الضابطة لها

مقاصد التشريع العامة : « هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها ، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة ».

وهذه المعاني نوعان : معان حقيقية ، ومعان عرفية عامة .

والمعاني الحقيقية : « هي التي لها تحقُّقٌ في نفسها ، بحيث تٌدرِك العقول السليمة ملاءمتها للمصلحة أو منافرتها لها – أي تكون جالبة نفعاً عاماً أو ضرراً عاما – إدراكاً مستقلا عن التوقف على معرفة عادة أو قانون »

والمعاني العرفية العامة : « هي المُجَرَّبَات التي ألِفَتْها نفوس الجماهير واستحسنتها استحساناً ناشئاً عن تجربة ملاءمتها لصلاح الجمهور »

وقد اشترط لهذين النوعين : الثبوت ، والظهور ، والانضباط ، والاطراد .

الثبوت : معناها : « أن تكون المعاني مجزوماً بتحققها ، أو مظنوناً ظناً قريباً من الجزم » .

الظهور : « الاتضاح بأن تكون المعاني واضحة لا يختلف الفقهاء في تشخيصها ، ولا تلتبس على معظمهم لمشابهتها لغيرها » كحفظ النسب

مثل : حفظ النسب الذي هو المقصد من مشروعية النكاح ، فهو معنى ظاهر لا يلتبس بغيره .

الانضباط : « أن يكون للمعنى حدٌّ معتبر لا يتجاوزه ولا يقتصر عنه ، بحيث يكون القدر الصالح منه صالحا لكي يكون مقصدا شرعيا قدراً غير مشكَّك » كحفظ العقل إلى القدر ...

الاطراد : « أن لا يكون المعنى مختلفاً باختلاف أحوال الأقطار والقبائل والأعصار » كوصف الإسلام ، والقدرة على الإنفاق في تحقيق مقصد الملاءمة للمعاشرة ..

يلحق بالمعاني الحقيقية : « المعاني الاعتبارية القريبة من الحقيقية » ، وهي المعاني التي لها حقائق متميزة عن بقية الحقائق ، ولكنها غير موجودة إلا في اعتبار العقلاء ، بحيث لا مندوحة للعق عن تعلقها ؛ لأن لها تعلقا بالحقائق ، ولكن وجودها تابع لوجود حقيقة مثل الزمان والمكان ، أو حقيقتين مثل الأبوة والبنوة .

ويلحق بالمعاني العرفية العامة : « المعاني العرفية الخاصة »، وهي التي تلحق ويقترب من المعاني العرفية العامة وليست بعامة، وذلك كاعتبار الذكورة شرطاً في الولايات القضائية وفي الإمارة ..

الأوهام : « فهي المعاني التي يخترعها الوهم من نفسه دون أن تصل إليه من شيء محقق في الخارج » ، كتوهم كثير من الناس أن في الميت معنى يوجب الخوف منه أو النفور عنه ...

التخيلات : « وهي المعاني التي تخترعها قوة الخيال بمعونة الوهم ، بأن يُركِّبها الخيال من عدة معان محسوسة محفوظة في الحافظة » ، كتمثيل صنف من الحوت بأنه خنزير بحري ، وبالتالي ..

1- ما جاء في الموطأ أن رسول الله -ﷺ- رأى رجلاً يسوق بدنة ، فقال له : « اركبها » فقال : يا رسول الله : إنها بدنة. فقال ﷺ : « اركبها ويلك » ..

2- أن عبد الله بن عمر كفن ابنه واقدا حين مات بالجحفة وهو محرم وقال : " لولا أننا حُرُم لطيبناه "

وقد يقارن المعنى الحقيقي - الذي هو مناط التشريع - معنى وهمياً يغطي عليه في نظر عموم الناس .

فعند ذلك ينبغي على الفقيه أن يتأمل ذلك ويتعمق حتى يظفر بما يزيل الوهم . مثاله :

1- النهي عن غسل الشهيد : « إنه يبعث ... ودمه يثعب ، اللون لون الدم ...  » . 2- وكذا الأمر بستر العورة للمصلي الذي يصلي في خلوته .

أحكام منوطة بمعان وحِكَم لم تظهر لنا : كاستقبال القبلة ، واستلام الحجر ، والطهارة بالتيمم ، فإن هذه الأمور لا نبحث عن عللها ومعانيها ، وإنما علينا أن نجعلها من التعبديات ...

==*****===

المقصد العام من التشريع هو حفظ النظام إلى جلب المصالح ودرء المفاسد

إن المقصد العام من التشريع ، هو : « حفظ نظام الأمة ، واستدامة صلاحه بصلاح المستخلف فيها ، وهو نوع الإنسان ». وصلاحه يكون بصلاح عقيدته ، وعقله ، وعمله ...

ولقد عالج الإسلام صلاح الإنسان بما يلي :

1- بصلاح أفراده الذين هم أجزاء نوعه . 2- مجموعه 3- بتزكية نفسه . 4- بإصلاح العمل .

الأدلة الدالة على أن المقصد من التشريع هو « الإصلاح وإزالة الفساد » : منها ما هو صريح في الدلالة ، ومنها ما دل على ذلك بطريق الإيماء .

1- الصريح : ﴿ ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ﴾ و : ﴿ وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها .. ﴾ و ﴿ ولا تعثوا في الأرض مفسدين ﴾ ..

2- بطريق « الإيماء »         : منها ما امتن به تعالى على عباده الصالحين ، فقال تعالى : ﴿ ولقد كتبنا في الزبور.. ﴾ ، وقال مخاطباً للمسلمين : ﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم ...﴾ ...

====*****===

معنى المصالح والمفاسد

( المصالح ) في اللغة : تطلق على المنفعة إطلاقاً حقيقياً.  وقد تطلق على : « ذات الفعل الجالب للنفع ، والدافع للضرر على سبيل المجاز » من باب إطلاق اسم المسبب على السبب .

في الاصطلاح : الرازي : « المصلحة : عبارة عن المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده من حفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم ونسلهم وأموالهم ، طبق ترتيب معين فيما بينها » .

والمنفعة عنده هي : اللذة تحصيلاً وإبقاءً ، فالمراد بالتحصيل : جلب اللذة مباشرة. والمراد بالإبقاء : الحفاظ عليها بدفع المضرة وأسبابها . فالمصالح عنده هي : « المنافع واللذات التي قصدها الشارع الحكيم لعباده من حفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم وأموالهم ونسلهم ، وحافظ عليها بدفع المضار وأسبابها » .

4- ابن عاشور : « وصف للفعل يحصل به الصلاح – أي النفع منه – دائما أو غالبا للجمهور أو للآحاد » .

وقصد بدوام المصلحة : أن تكون خالصة مطردة ، وبكونها غالبة : أي راجحة في جميع الأحوال .

( المفاسد ) في اللغة : إطلاقها على المضرة حقيقي . وقد تطلق على : « ذات الفعل الجالب للضرر على سبيل المجاز » من باب إطلاق اسم المسبب على السبب .

في الاصطلاح مقابل المصلحة للرازي هي : « عبارة عن المضرة التي قصد الشارع الحكيم دفعها عن عباده ، ليحفظ عليهم دينهم ونفوسهم وعقولهم وأموالهم ونسلهم »

وعند ابن عاشور : « وصف للفعل يحصل به الفساد والضرر دائما أو غالبا للجمهور أو للآحاد .

==****==

الضابط الذي به تعرف المصلحة من المفسدة .

بعد أن عرّف ابن عاشور المصلحة والمفسدة بيَّن : أن المصلحة :

1-  قد تكون عامة : وهي « ما فيه صلاح عموم الأمة أو الجمهور ولا يلتفت فيها إلى الأفراد إلا من حيث إنهم أجزاء من مجموع الأمة » .

2-  وقد تكون خاصة : وهي ما فيه نفع لآحاد الأمة باعتبار صدور الأفعال من آحادهم ...

على المتتبع « للمصالح الخفية » يجد معظمها قد روعي فيه النفع العام ، فمثلا : دية القاتل خطأ تتحملها عاقلة القاتل وقرابته ...

ثم بيَّن ابن عاشور : أن تحقيق الحد الذي به يعرف كون الوصف مصلحة أو مفسدة أمر دقيق ؛ لأن وجود النفع الخالص والضر الخالص بالنسبة للضر والنفع المشوبين عزيز ،

وعليه فالمصالح والمضار الخالصة وإن كانت عزيزة إلا أنها موجودة ، مثاله : 1- التعاون الواقع بين شخصين ... 2-             وإحراق ما لأحد الأشخاص فيه إضرار خالص له.

وقد وضع ابن عاشور الضوابط يعرف بها كون الوصف مصلحة أو مضرة وجعلها واحدا من أمور خمسة :

أولها : أن يكون النفع والضر محققا مطردا . كانتفاع بنور الشمس ، وحرق زرع ...

ثانيها : أن يكون النفع أو الضر غالبا واضحا تنساق إليه عقول العقلاء والحكماء ، بحيث لا يقاومه ضده عند التأمل . وهذا أكثر أنواع المصالح والمفاسد : كإنقاذ الغريق

ثالثها : أن لا يمكن الاعتياض عنه بوصف آخر في تحصيل الصلاح أو الفساد . كشرب الخمر ، فقد اشتمل على : 1- ضرر بين . 2- واشتمل على نفع بين ، إلا أنا وجدنا ..

رابعها : أن يكون أحد الأمر أو الوصفين من النفع أو الضر ـ مع كونه مساويا لضده ـ معضودا بمرجح من جنسه . مثل : تغريم الذي يتلف مالا عمدا قيمة ما أتلفه ...

خامسها : أن يكون أحد الوصفين : منضبطا محققا ، والآخر : مضطربا . مثل : الضرر الذي يحصل من خطبة المسلم على أخيه ومن سومه  ...

===****===

ضوابط المصلحة

الضوابط والقيود التي ينبغي على المجتهد مراعاتها عند الأخذ بالمصالح الشرعية واعتبارها .

وذلك لأن المصلحة ليست دليلا شرعيا مستقلا بذاته : كالكتاب ... وإنما هي « معنى كلي »  : استخلص من مجموع جزئيات الأحكام المأخوذة من أدلتها ومصادرها . وهو : القصد إلى مراعاة مصالح العباد في الدنيا والآخرة .

أما « الضوابط العامة » فأهمها ما يأتي :

أولا : ينبغي أن ينظر المجتهد إلى المصلحة أو المفسدة بميزان الشرع ...  .

ثانيا : أن مصلحة الدين هي أساس المصالح الأخرى ، ومقدمة عليها  .

ثالثا : المصالح التي اعتبرها الشارع هي المصالح الغالبة بحكم العادة وهي التي قصد الشارع جلبها . وكذا المفاسد  ...

ضوابط المصلحة الخاصة بالمصالح المرسلة :

1-  أن تكون المصلحة مندرجة في مقاصد الشريعة ، وذلك بأن تحقق المصالح الضرورية ، والحاجية ، والتحسينية .

2-  أن لا تعارض نصا من كتاب أو سنة ؛ لأنه لا اجتهاد مع النص . خلافا للطوفي ...

3-  أن لا تعارض المصلحة إجماعا .

4-  أن لا تعارض قياسا صحيحا ، سواء كانت مصلحة لا شاهد لها في الشرع كالمصالح المرسلة ، أم كانت لها شاهد ...

5-  أن لا يترتب على الأخذ بالمصلحة ، وبناء الحكم عليها ، تفويت مصلحة أخرى أهم منها ، أو مساوية لها.

===****==

أقسام المصالح

تنقسم المصالح باعتبارات متعددة :

1-        فباعتبار آثارها في قوام أمر الأمة  إلى ثلاثة أقسام : ضرورية ، وحاجية ، وتحسينية .

2-        وباعتبار تعلقها بعموم الأمة أو جماعتها ، أو أفرادها ، تنقسم إلى : مصلحة عامة كلية ، وجزئية تتعلق بالأغلب ، وجزئية تتعلق بشخص معين .

3-        وباعتبار تحقق الحاجة إليها في قوام أمر الأمة أو الأفراد أو باعتبار تحقق الحاجة إلى جلبها ودفع الفساد عن أن يحيق بها ، تنقسم إلى : قطعية ، وظنية ، ووهمية .

4-        وباعتبار قصد الشارع لها أصالة أو تبعا ، تنقسم إلى : أصلية ، وتبعية .

5-        وباعتبار تعلقها بالآخرة أو الدنيا تنقسم إلى : دنيوية ، وأخروية .

6-        وباعتبار شهادة الشارع لها بالاعتبار أو الإلغاء ، تنقسم إلى : مصالح معتبرة ، وملغاة ، ومرسلة .

====*****====

أولا : أقسام المصالح - أو المقاصد - باعتبار آثارها في قوام الأمر .

      تنقسم المصالح بهذا الاعتبار إلى ثلاثة أقسام :

الأول : المصالح الضرورية .

في اللغة من الضرورة ، وهي : الحاجة الشديدة . والضرورة اسم من الاضطرار ، وهي المشقة . فالضرورة ، هي : « الأمر المحتاج إليه بحيث أصبح صاحبه مضطرا إلى فعله » .

وفي الاصطلاح : المحلي : « ما تصل الحاجة إليه إلى حد الضرورة » . وابن عاشور : « التي تكون الأمة بمجموعها وآحادها في ضرورة إلى تحصيلها ، بحيث لا يستقيم النظام باختلالها ، فإذا انخرمت تؤول حالة الأمة إلى فساد وتلاش » .

====****====

أقسام المصالح الضرورية :

تنقسم إلى خمسة أقسام : هي حفظ الدين ، والنفوس ، والعقول ، والأموال ، والأنساب . وزاد بعضهم ـ كالطوفي ـ سادسا هو حفظ الأعراض .

وقد ثبت ذلك بالأدلة من الاستقراء ، والكتاب ، والسنة :

أما الاستقراء : فباستقراء الأدلة الشرعية وجدناها جميعها ترجع إلى حفظ هذه المقاصد أو الضرورية الخمس .

وأما الكتاب : فمنه آيات دلت على مراعاة  الضروريات الخمس مجتمعة ، ومنه ما هو خاص بكل واحدة منها .

أما الآيات الدالة على مراعاة ذلك مجتمعة ، فمنها ما يلي :  ﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم  ... ﴾ . و ﴿ يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على  ...﴾

أما الآية الخاصة بكل واحد فمنها ما يأتي : ﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ﴾ . و ﴿ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص  ﴾ ، وقوله تعالى : ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.

أما السنة : فأحاديث كثيرة ، منها : العام الذي دل على ذلك مجتمعة ، ومنها الخاص .

أما العام فمنها :

1-    حديث بن مسعود رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أعظم ؟ قال : « أن تجعل لله ندا وهو خلقك » ، قلت : ثم أي ؟ ...

2-    قوله ﷺ : « لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ...

3-    أيضا قوله ﷺ : « كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه » فقد دل على وجوب حفظ النفس والمال والعرض .

4-    أيضا قوله ﷺ : « لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن » .

ومن الخاص :

1- قوله ﷺ : « كل مسكر خمر وكل مسكر حرام » وقوله ﷺ : « ما أسكر كثيره فقليله حرام » . فهذا دل على وجوب حفظ العقل.

2- وقوله ﷺ : « لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفس منه » ، فقد دل على وجوب حفظ المال .

وحفظ هذه الضروريات يكون بأمرين :

أحدهما : ما يقيم أصل وجودها ويثبت أركانها ، وهو ما يسمى بجانب الوجود ، وهو الأحكام التي شرعها الله تعالى على لسان رسوله ﷺ ، وتضمنت حفظ هذه المقاصد الخمسة من جانب الوجود : كالإيمان بالله وبوحدانيته ، وإقام الصلاة ...

وثانيهما : ما يدفع عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها ، وذلك بدرء الفساد الواقع أو المتوقع ، وهو ما يسمى بجانب العدم أو التشريع السلبي : وهي الأحكام التي شرعها الله تعالى لدرء ما يطرأ على هذه المقاصد الضرورية من خلل سواء أكان واقعا بالفعل أو متوقعا ؛ كمشروعية قتل المرتدين وقتالهم حفظا للدين ، والقصاص من القاتل حفظا للنفس ، وعقوبة الحد ..

أولا : حفظ الدين .

إن حفظ الدين أصل للمقاصد والمصالح كلها ، فإذا ذهب الدين فسدت الدنيا بأسرها ، وضاعت المقاصد كلها . فالمحافظة على الدين يجعل الإنسان محجما عن الاعتداء على المقاصد الأخرى ... . والكلام عن حفظ الدين يكون من جانبين :

أ- من جانب الوجود : وهذا يتناول : العمل بالدين ، والحكم به ، والدعوة إليه ، والجهاد في سبيله .

ب- حفظ الدين من جانب العدم : تكون : برد وإبطال كل ما يخالف الدين من الأقوال والأعمال والأفعال .

ثانيا : « حفظ النفس » .

النفس التي حافظ الشارع عليها ، هي : النفس المعصومة بالإسلام أو الجزية أو الأمان .

وقد وضعت الشريعة الإسلامية الوسائل الكفيلة بحفظ النفس من التعدي من جانبي الوجود والعدم :

أ- من جانب الوجود :

وهو : « الأحكام التي شرعت لمراعاة حفظ النفس من جانب الوجود » ، وذلك بجلب وتحصيل كل ما يؤدي إلى حفظ النفس .

لذلك قرر الله تعالى مبدأ حق المحافظة على النفس حتى عل الشخص نفسه ، فقال تعالى : ﴿ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ﴾ .

ومن أجل هذا فقد أحل الطيبات في أصول العادات من مأكل ومشرب وملبس وكل ما يقيم البنية ويحفظ البدن . فقد أباحه الشارع لتحقيق المحافظة على الأنفس ، بل ...

ب- من جانب العدم :

وهو : « الأحكام التي شرعت لمراعاة حفظ النفوس من جانب العدم » ، وذلك بدرء ودفع كل ما يخل بحفظ النفس .

1-    تحريم الاعتداء عليها : ﴿ ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا أليما ﴾، وقال : ﴿ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ﴾.

2-     سد الذرائع المؤدية إلى قتل النفس : « من حمل علينا السلاح فليس منا » ، و « سِبَاب المسلم فسوق وقتاله كفر » ؛ لأن حمل السلاح وسباب المسلم ذريعة إلى القتال ، وأن يقتل المسلم أخاه .

3-    القصاص : الشارع أوجب القصاص على القاتل بغير حق زجرا له ولغيره من كل من تسول له نفسه قتل أخيه بغير حق : ﴿ وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين ...

4-    تحريم قتل النفس إلا بحق قامت البينة عليه : وذلك إما بإقرار من صاحب الجريمة ، أو بشهادة لشهود العدول حسب الجريمة ...

5-    ضمان النفس : أن الشريعة أوجبت ضمان النفس في حالة عدم القصاص ، فأوجبت دية العمد على القاتل وحده دون عاقلته ، وأنها حالَّة ومغلظة ما دام القتل عمدا ، بخلاف ..

6-    العفو عن القصاص : لقد أجازت الشريعة العفو عن القصاص إذا أراد ذلك ولي المقتول .

ثالثا : « حفظ العقل » :

إن العقل منة كبرى ونعمة عظمى أنعم الله بها على الإنسان وميزه به على غيره من سائر الحيوانات .

ومن أجل المحافظة على نعمة العقل شرع الشارع ما يحفظ العقل من جانبي الوجود والعدم :

أ- أما الوجود :

فأعطى الشارع العقل أهمية بالغة في كونه وسيلة إلى التأمل في آيات الله ، وأخذ العبرة منها ﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾.

أوجب على الإنسان كل ما هو ضروري لحفظ نفسه وعقله من الطعام والشراب ؛ لأن ما يحفظ النفس بطريق مباشر يحفظ العقل ...

الشارع جعل العقل مناط التكليف ، فغير العاقل ليس بمكلف ، قال ﷺ : « رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ..

ب- من جانب العدم :

فقد حرم الشارع كل ما يفسد العقل . ومفسدات العقل على قسمين : 1- حسية . 2- معنوية .

1- المفسدات الحسية :

وهي التي تؤدي إلى الإخلال بالعقل بحيث يصبح الإنسان كالمجنون الذي لا يعرف صديقه من عدوه فيختل كلامه المنظوم ، ويذيع سره المكتوم .

من هذه المفسدات : الخمور والمخدرات ونحوها : ﴿ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ﴾ .

وقال ﷺ : « كل مسكر خمر ، وكل مسكر حرام » . وقال ﷺ : « ما أسكر كثيره فقليله حرام » .

وهذا كله يؤكد أنها وغيرها من المسكرات من أعظم أسباب التعدي على الضروريات الخمس التي جاء الإسلام بحفظها ،

الشارع أوجب الحد على شارب الخمر عامدا عالما ... وهو ثمانون جلدة عند الجمهور أو أربعون عند الشافعي ورواية عن أحمد .

2- المفسدات المعنوية :

وهي : « ما يطرأ على العقول من تصورات فاسدة في الدين أو الاجتماع أو السياسة أو غيرها من أنشطة الحياة » .

فهذه مفسدة للعقول من حيث كون الإنسان عطل عقله عن التفكير السليم الذي يوافق الشرع ؛ لذلك نفى الله تعالى في كتابه على الكفار حيث عطلوا عقولهم عن التفكير في آيات الله القرآنية ، وآياته الكونية ، فلم يستفيدوا منها في الوصول إلى الحقيقة .

رابعا : « حفظ النسل » :

والكلام في هذا من ناحيتين : 1- هل هو النسل أو النسب أو البضع ؟ 2- وسائل حفظه من جانبي الوجود والعدم .

أما الناحية الأولى : - هل هو النسل أو النسب أو البضع - فقد اختلف العلماء في مسمى هذا المقصد :

1-    النسل : كالغزالي في المستصفى والآمدي ، وابن الحاجب ، والعضد ، والشاطبي ، والزركشي ، والشوكاني .

2-    النسب : كالرازي ، والبيضاوي ، وابن قدامة ، والقرافي ، وصدر الشريعة ، والطوفي ، وابن السبكي ، وغيرهم .

3-    البُضع أو الفرج : كإمام الحرمين الجويني ، والغزالي في شفاء الغليل ، وشيخ الإسلام ابن تيمية.

رأى ابن عاشور : أن حفظ الأنساب إن أريد به : حفظ النسل من التعطيل والقطع فعده من الضروريات ظاهر واضح ... . وإن أريد بحفظ الأنساب : حفظ انتساب النسل إلى أصله فقد يقال : إن عدّه من الضروريات غير واضح ... وعليه فهو يرى أن النسل من قبيل الضروري ، والنسب من الحاجي .

وهناك من رأى : أن حفظ النسل أعم من حفظ النسب ، وحفظ النسب أخص ، ولكن حفظ النسل معرض للخطر إذا ضيع حفظ النسب .

والحقيقة سبب الخلاف : ترابط هذه الأمور الثلاثة من حيث الواقع من جهة ، ومن حيث اهتمام الشارع بها من جهة أخرى ...

وإن أردنا الترتيب فيما بينها : فالنسل ضروري ؛ لأنه يترتب على فقده انقطاع الوجود الإنساني وإنهائه ، وخراب العالم وفساده . وأما النسب فهو من مكملات النسل ...

أما الناحية الثانية : وهي وسائل حفظ النسل :

أولا : حفظ النسل من جانب الوجود :

وذلك يكون بالحث على ما يحصل به استمراره وبقاؤه وتكثيره ، وذلك بما يلي :

1- الحثّ على أصل النكاح والترغيب فيه  ﴿ فانكحوا ما طاب لكم من النساء ... ﴾ .

2- الحث على نكاح الولود لما ... « تزوجوا الودود الولود ! فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة » ....

ثانيا : حفظ النسل من جانب العدم : وذلك بمنع ما يقطعه كلية أو يقلله أو يَعْدِمه بعد وجوده :

1- لذلك منع الشارع ترك النكاح والإعراض عنه : ( منع التبتل ، والاختصاء ، « فمن رغب عن سنتي .. » ، إنكار السلف ، قرار العلماء أن النكاح أفضل » .

2- كذا منع الشارع ما يمنع الحمل كلية لدي المرأة ، أو يضعف الشهوة ، أو يقطعها بالكلية لدى الرجل.

3- منع الشارع الإجهاض . ( وهو إسقاط الحمل من بطن أمه )

ومن العجيب أن أحد كتاب الغرب تنبه لذلك فذكر ثلاثة أضرار للإجهاض ، وهي :

أ- هلاك عدد غير معلوم من أفراد البشرية قبل أن يخرجوا إلى نور الحياة .

ب- ذهاب عدد غير يسير من الأمهات ضحية الموت أثناء عملية الإجهاض .

ج- حدوث مؤثرات مرضية للمرأة لا يستهان بعددها تؤدي في النهاية إلى عدم الإنجاب مستقبلا .


خامسا : « حفظ المال ».

إن المال عصب الحياة ، ولا تستقيم مصالح الدنيا إلا به ، فهو من الضروريات الخمس . و المقصود من المال : « كل ما يتموله الإنسان من متاع أو نقد أو غيره » .

لذا كانت الحاجة ماسة إليه في حق الفرد ، والأمة .

أما بيان حاجة الفرد إليه : فمن جهة أن حفظ حياة الفرد متوقفة على الأكل والشرب ، واللباس الواقي من الحر ... فإذا عدم المال تصور لحوق الضرر ...

وأما بيان حاجة الأمة إليه : فمن وجوه :

1- أن الأمة هي مجموعة من الأفراد ، فإذا دخل النقص على كل فرد دخل على جميع الأمة ؛ لأن حفظ الجزء ...

2- أن الأمة مطالبة بمجموعها بالدفاع عن دين الله والجهاد في سبيله  ...

3- أن وجود المال في يد الأمة يغني الأمة عن أعدائها ، فلا يتسلط عليها أعداؤها  ...

والمقصود من المال في الشريعة ليس هو كنزه أو التفاخر به ، وإنما ليحقق مصالح شرعية أخرى أعظم وأجل ؛ إذ المال لا يحمد إلا إذا كان خادما للدين ينفقه صاحبه في سبيل الله  « لا حسد إلا في اثنتين : ... .

والوسائل التي اتخذتها الشريعة الإسلامية للمحافظة على المال من جانبين :

الأول : من جانب الوجود ، وذلك بعدة وسائل .

قد حثت الشريعة الإسلامية على التكسب من طريق حلال :

أ-    ففتحت الطرق المشروعة للكسب من عمل اليد ... ﴿ فإذا قضيت الصلاة .. ﴾ و ﴿ فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه ﴾ و « أطيب الكسب عمل الرجل بيده ، وكل بيع مبرور » .

ب- الترغيب في المال بذكر ما تحصُل بسببه من منافع دينية وأخروية ﴿ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله  .... ﴾ و ﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا.. ﴾ .

وقال ﷺ : « ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة ، إلا كان له به صدقة » .

ورد عن الصحابة ذم ترك العمل والتكسب ، قال عمر رضي الله عنه : " لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ، ويقول : اللهم ارزقني ! فقد علمتم .. ". وعن علي رضي الله عنه : " اعمل لدنياك كأنك تعيش .. ! ".

الثاني : أما حفظ المال من جانب العدم :

وذلك بدرء الفساد الواقع أو المتوقع عليه ، وذلك بالطرق الآتية :

1- حرمت الاعتداء على المال : ﴿ ولا تأكلوا أموالكم بينكم .. ﴾ و ﴿ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ... ﴾ ، وحديث « لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب.. » و « كل المسلم على .. »

2-   حرمت الشريعة إضاعة الأموال وتبديده والتبذير في إنفاقه : ﴿ يا بني آدم خذوا زينتكم ...  ﴾ ، و ﴿ إن المبذرين كانوا ... ﴾.

      كما نهى النبي ﷺ : عن إضاعة الأموال . كذلك أخبر ﷺ عن سؤال الإنسان يوم القيامة عن ماله : من أين اكتسبه وفيما أنفقه ...

      كما أخبر ﷺ  : أنه ليس للإنسان من ماله إلا ما أنفقه في طريق مشروع من مأكل ومشرب وملبس وصدقة ، فيقول ﷺ : « يقول ابن آدم : مالي مالي » قال ﷺ : « وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت ... » .

كذلك منعت الشريعة السفيه من تمكينه من ماله حتى يزل سفهه . وكذلك الصغير حتى يبلغ ﴿ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ... ﴾.

3- شرعت الحدود للمحافظة على المال من الاعتداء عليه : ﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله ﴾ .

4- ضمان المتلفات .

5- مشروعية الدفاع عن المال : « من قتل دون ماله فهو شهيد » .

6- كتابة الدين والإشهاد عليه ، قال تعالى : ] يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم  [ إلى قوله : ] واستشهدوا شهيدين من رجالكم [ .

7- مشروعية اللقطة ، وهو أن يعرف ما وجده حولا كاملا في مجامع الناس بأوصافه كاملة .

سادسا : « حفظ العِرْض » :

اختلف الأصوليون في عد هذا من الضروريات :

1- فالجمهور : لم يعدوا العِرْض من الضروريات ، ولم يذكروه فيها .

2- البعض : عده من الضروريات وجعلوه مقصدا سادسا : كالطوفي ، والمحاملي ، والسبكي ، وابن النجار ، والشوكاني ([1]).

 3- هناك من فصل كالزركشي ، فذهب إلى أن حفظ العِرْض : قد يكون من الضروريات ، وهي الأنساب ، فإن حفظ النسب بتحريم الزنا تارة ، وبتحريم القذف المؤدي إلى الشك في الأنساب . ومنها ما ليس من الضروريات : كالأعراض غير الأنساب كشتمه بقوله : يا فاسق ، أو يا ظالم ، أو يا بخيل ، ونحوها .

والراجح : عدم عد حفظ العرض من الضروريات على انفراده ؛ لأن العرض إذا كان يتعلق بالأنساب - وذلك بقذف الإنسان في نسبه أو نسله - فذلك يكون المنع منه من باب المحافظة على ضروري آخر ، وهو حفظ النسل ، فيكون العرض حينئذ من باب المقاصد والمصالح المكملة للضرورية ، والمكمل للضروري ضروري .

وإن كان العِرْض من قبيل الشتم والذم غير القذف ، فهو وإن كان محرما إلا أنه لا يصل إلى درجة الضروري ، وإنما يكون حاجيا.

====*****====

ترتيب المقاصد الضرورية السابقة

فائدة معرفة ترتيبها : أنه قد يقع التعارض بين مصالحها فيحتاج المجتهد إلى تقديم أقوى المصلحتين بحسب تعلقها .

والكلام في ترتيبها من ناحيتين :

الناحية الأولى : تقديم الدين على غيره من الضروريات . قولان :

الأول          : أن الدين مقدم على سائر الضروريات  . وإلى هذا ذهب الجمهور .

الثاني           : تقديم الأمور الأربعة الباقية على حفظ الدين . حكاه الآمدي ، وابن الحاجب ، وابن الهمام ، ولم ينسبوه إلى قائل .

استدل أصحاب القول الأول بما يلي :

1- أن الدين هو المقصود الأعظم ، فالمقصود من خلق الخلق هو عبادة الله تعالى ] وما خلقت الجن ... [ ، وما عداه مقصود من أجله ، لهذا وجب تقديمه عليها عند التعارض .

2- قول النبي r : « فدين الله أحق بالقضاء » ورد هذا في باب قضاء الصيام والحج عن الميبت ، حيث فُهِم منه أن دين الله وحقه مقدم على حق الآدمي عند تعارضهما .

واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي :

أ- أن الأمور الأربعة الأخرى حقوق دنيوية للآدميين ، وإذا ازدحم الحقان : حق الله وحق الآدمي في محل واحد ، قُدِّم حق الآدمي على حق الله ، وذلك لما يأتي :

1- لأن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة ، والمساهلة ، وحقوق الآدميين مبنية على المشاحنة والمضايقة .

2- ولأن الآدمي يتضرر بفوات حقه ، بخلاف رب العزة سبحانه ، فلا يتضرر بشيء بذلك ، والمحافظة على حق يتضرر صاحبه بفواته أولى مما لا يتضرر بفواته([2]).

ب- أن هناك صورا قدم فيها حق الآدمي على حق الله تعالى ، منها :

1- إذا اجتمع القتل العمد العدوان مع الردة في شخص ، فإنه يقتل قصاصا لا كفرا ؛ مراعاة لحق الآدمي ، وهم أولياء المقتول ([3]).

2- ترجيح مصالح المسلمين المتعلقة ببقاء الذمي بين أظهرهم - وهي دنيوية - على مصلحة الدين ، حتى عُصِم دمه وماله مع وجود كفره المبيح لقتله([4]).

3- تخفيف الصلاة عن المسافر بإسقاط ركعتين([5])، وإسقاط القيام عن المريض تقديما لمصلحة النفس على الدين ، وكذلك ترك الصلاة من أجل إنقاذ الغريق([6]) ... إلخ.

الترجيح : مما تقدم يتضح أن الراجح هو تقديم المصلحة الدينية على المصلحة الدنيوية ، أو بتعبير آخر : تقديم الدين على الأمور الأربعة الأخرى ، وذلك لما يلي :

1- أن هذا يعتبر إجماعا لهم في الحقيقة والواقع ؛ لأن القول المقابل لم يعرف له قائل ، بل بعضهم حكاه بصيغة الاعتراض ، فلا يعتد به ، وأدلته مردودة .

2- أن هناك نصوصا تثبت حماية الدين بالأنفس والأموال : كقوله تعالى : ] انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله [.

3- أن المقصود الأعظم حفظ الدين ، والمقاصد الأربعة الأخرى مطلوب حفظها من أجله – كما سبق بيانه – لأن المحافظة على النفس من أجل عبادة الله . والمحافظة على العقل ترجع إلى حفظ الدين والنفس والمال . والمحافظة على المال ترجع إلى حفظ الدين والنفس . وحفظ النسل راجع إلى حفظ النفس . فالكل راجع إلى حفظ الدين سواء أكان بطريق مباشر أو غير مباشر .

4- أن ما ذكر من أمثلة قدم فيها بعض الأمور الدنيوية على الدينية ، فذلك مقيد بحالات خاصة : كأن تكون المصلحة لها تعلق بحق الله تعالى وحق الآدمي ، فيقدم ما لزم عنه حقان على ما لزم عنه حق واحد . كما في ترك الصلاة من أجل إنقاذ غريق أو حريق فإن في إنقاذه حياة للنفس ، ثم أداء الصلاة بعدها ، فالمصلحة الدينية هنا لا تفوت بالكلية .

أو إذا كان يلزم من تقديم المصلحة الدنيوية حفظ الدينية ، ويلزم من حفظ الدينية تضييع وتفويت الدنيوية كما في القصاص مع الردة ، فحينئذ يلزم تقديم المصلحة الدنيوية لعدم تفويتها للمصلحة الدينية ، لذلك قدم القتل قصاصا على القتل كفرا كما سبق في قتل العمد العدوان مع الردة([7]) .

الناحية الثانية : الترتيب بين سائر الضروريات غير الدين

اتفق الأصوليون على تقديم حفظ النفس على غيره من الضروريات الأخرى غير الدين .

واختلفوا في الترتيب : بين النسل والعقل . وفي الترتيب : بين المال والعرض عند من عده من الضروريات :

أما النسل والعقل :

1- فبعضهم : قدم النسل أو النسب على العقل : كالآمدي وابن الحاجب ومن وافقهما .

2- وبعضهم : قدم العقل عن النسب أو النسل : كابن السبكي ومن وافقه .

وأما العرض والمال :

فابن السبكي سوَّى بين العرض والمال ، فعطف بينهما بالواو ، وعطف غيرهما بالفاء المقتضية الترتيب والتراخي ، فقال : " كحفظ الدين فالنفس فالعقل فالنسب فالمال والعرض "([8]).

وأما زكريا الأنصاري فقد عطف العِرْض على المال بالفاء – المقتضية الترتيب والتعقيب([9])  فدل على أنه يقدم المال على العرض.

والظاهر : أن حفظ العرض - كما رجحنا من قبل - منه : ما يرجع إلى حفظ النسب والنسل ، وهو حينئذ مقدم على المال . ومنه : ما لا يرجع إلى حفظ النسب والنسل كالسب بغير القذف والزنا ، فهو من الحاجيات حينئذ ويؤخر على حفظ المال .



([1])  واستدلوا بقوله  : « إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام » فالنبي  قرن الأعراض بالدماء والأموال في الذكر ، وحفظ الدماء والأموال من الضروريات ، فكذلك الأعراض . قالوا : إن عادة العقلاء بذل نفوسهم وأموالهم من أجل أعراضهم ، وما فدي بالضروري أولى أن يكون ضروريا .

      ويمكن أن يناقش دليل من جعل العرض من الضروريات :

      بأنه لا يلزم من اقتران الأعراض بالأموال والدماء في الحديث أن تكون من الضروريات ؛ لضعف دلالة الاقتران عند الأصوليين ؛ إذ يجوز أن يقرن ما هو ضروري بما ليس في مرتبة الضروريات .

      وأما القول بأن من عادة العقلاء فداء أعراضهم بأنفسهم ، فإنا نقول :

      ليس كل الأعراض تفدى بالأنفس عند العقلاء ، فالأعراض التي تكون بالقذف والزنا فهي التي تفدى بالنفس ، وهذا راجع إلى حفظ النسل والنسب . وأما الأعراض التي هي السب والشتم البسيط : كوصفه بالبخل أو الظلم ، فهذا لا يفده العقلاء بأنفسهم ، إنما هو البلهاء فقط . ( مقاصد الشريعة لليوبي ص/278 ) .

([2])  يمكن أن يجاب عن هذا : بأنه يمكن أن يسلم ما تقولون لو كان تقديم حق الآدمي لا يؤدي إلى تفويت حق الله تعالى بالكلية ، أما إذا كان يُفوِّت حق الله تعالى ، فحق الله هو المقدم لا محالة .

([3])  ويمكن أن يجاب عن هذا : بأنه إنما قتل قصاصا إذا لم يعف عنه ولي الدم لأمور :

1- لأن بالقتل قصاصا يتحقق حق الآدمي - وهو الثأر لوليه والتشفي – وحق الله تعالى . ولأن النفس ليس حقا محضا للعبد بدليل أنه لا يجوز له قتل نفسه . فالقتل قصاصا اجتمع فيه الحقان ، لا حق واحد ، بخلاف ما إذا قتل للردة ، فإنه لا يتحقق إلا مقصود واحد فقط ، وهو حق الله . والجمع بين الحقين أولى ، فهو ليس تقديما لحق الآدمي كما قيل !؟.

2- أن تقديم حق الآدمي هنا لا يفضي إلى تفويت حق الله تعالى فيما يتعلق بالعقوبة البدنية ؛ لأن المقتول قصاصا ستبقى عليه العقوبة الأخروية على ردته ، بخلاف تقديم حق الله تعالى ، وهو القتل ردة ، فإنه يفضي إلى فوات حق الآدمي من العقوبات البدنية من التشفي والثأر ، فكان تقديم حق الآدمي أولى .

3- وعلى كل حال فلن يعفى من القتل ؛ لأنه لو عفى عنه أولياء المقتول ، فسيقتله الإمام للردة .

([4]) ويمكن أن يجاب عنه : بأن إبقاء الذمي على كفره بين أظهر المسلمين ليس فيه مصلحة دنيوية فقط ، بل فيه مصلحة أخروية دينية ، وهي لاطِّلاعه على محاسن الشريعة وقواعد الدين ، ليسهل انقياده ودخوله في الدين . وذلك من مصلحة الدين لا من مصلحة غيره .

([5]) ويمكن أن يجاب عنه : بأن مشقة صلاة ركعتين للمسافر كمشقة صلاة أربعة للمقيم ، فلا مصلحة في ركعتين. بالإضافة إلى أن في أداء المسافر لركعتين مصلحة دينية ، هي المحافظة على الصلاة حتى في وقت السفر ، والتيسير للدين أيضا . وكذلك صلاة المريض قاعدا بالنسبة إلى صلاته قائما وهو صحيح ، ففيه مصلحة للمريض والدين معا .

([6]) ويجاب عنه : بأن ترك الصلاة من أجل إنقاذ الغريق والمريض فيه محافظة على النفس والدين ؛ لأن النفس ليست حقا خالصا للعبد ، ولأن تقديمه لا يفوت حق الدين . (مقاصد الشريعة لليوبي ص/307 ) .

([7])  ( مسألة ) : إذا تعارض قياسان كل منهما يدل بالمناسبة « أي العلة » على تقديم مصلحة : إحداهما متعلقة بالدِّين ، والثانية متعلقة بالدنيا ؛ قُدِّم ما يتعلق بالدين ؛ لأن الثمرة الدينية للعلة هي السعادة الأبدية لا يعاد لها شي ، جزم به فخر الدين الرازي والآمدي . وحكى ابن الحاجب قولا : إن المصلحة الدنيوية مقدمة على الدينية ؛ لأن حقوق الآدميين مبنية على المشاحنة ، وحق الله مبني على المسامحة .

وتفرع على هذا فروع منها :

·         إذا اجتمعت الزكاة والدين في تركة وضاق المال عنها ففيه أقوال :

1- أصحها : تقديم الزكاة على الدين ؛ عملا بالقاعدة ، وقياسا على تقديم الزكاة في حال الحياة ويصرف الباقي إلى الغرماء .

2- عكسه ، يقدم الدين على الزكاة ؛ قياسا على تقديم القصاص في الجرح العمد على حد السرقة ؛ لأن القصاص حق ولي المقطوع ، والثاني حق الله .

3- بالخيار ؛ لاستوائهما .  وهذه الأقوال في الدين الحال لا المؤجل ؛ لأن الدين المؤجل تقدم عليه الزكاة قولا واحدا .

·         كذلك إذا اجتمع دين ونذر ، أو دين والكفارة ، يجري فيه الخلاف .

·         وإذا اجتمع دين وحج فيه الأقوال الثلاثة حكاها ابن الرفعة وغيره من الشافعية .

·         وكذا إذا اجتمع دين وجزية فيه الأقوال الثلاثة : الصحيح القطع بالتسوية ، ومقابله يجري الخلاف .

([8])  جمع الجوامع مع شرح المحلي وحاشية العطار 2/322 ، مقاصد الشريعة لليوبي ص/315 .

([9])  حيث قال الأنصاري : " والضروري حفظ الدين فالنفس فالعقل فالنسب فالمال فالعرض ". ( لب الأصول مع شرح غاية الوصول ص/123 وما بعدها ).

Posting Komentar

0 Komentar